الاثنين، 14 مايو 2012

البرامج الانتخابية والمصالح

تقدم كل مرشـح من مرشـحي الرئاسـة الثلاثة عشـر ببرنامجه وتنافسـت الفضائيات في حصد أكبر حصة من دخل الإعلانات التي تتخلل شــرح هذه البرامج الانتخابية. هبطت علينا فجأة فكرة جهنمية لزيادة دخل القنوات وهي المناظرات. ورغم أن المناظرات يتم عقدها في المرحلة الثانية من الانتخابات حيث يكون هناك تنافســا بين اثنين فقط من المرشــحين إلا أنها فرصة لا تعوض لاســتغلال الظروف لتحقيق أكبر قدر من الدخل واختيار أكثر المرشـحين إثارة للجدل وشــعبية اسـتنادا على اســتطلاعات رأي هزيلة وفاشــلة وغير موضوعية ويتم إجراء المناظرات بلا احترافية ولا خبرة ولا تحضير متقن ســوى الخبرة في برامج المســابقات الرهانية من نوعية من ســيربح المليون.

وسـط كل هذا التنافس الإعلامي تحول تأييد كل مرشــح إلى ما يشــبه تشــجيع فريق كرة قدم فلا يهتم مؤيد المرشــح الفلاني بأي شـئ سـوى البحث عن كل ما يعتبر نقطة قوة لصالح مرشــحه المفضل وإبراز أي نقطة ضعف أو زلة لسـان لدى منافسـه و"تجريسـه" بها كأنها إصابة في مقتل تضمن لمرشــحه الرئاســة وغفل أغلب المتابعين المتعصبين عن البرامج نفســها وحقيقة ما وراءها وكيفية تطبيقها.

ورغم أن كل من يريد تغييرا حقيقيا في بلدنا يعلم أن أساس مشــكلاتنا هو الحكم العســكري إلا أن أغلبنا يحاول أن يبعد هذه الفكرة عن عقله محاولا التشبث بأمل في أن يحقق مرشحه المعادلة التي تخلصه من هذا النوع البغيض من الحكم بانتخابات تجري تحت سـيطرة عسـكرية كاملة. أما من يجادلون بأن الحكم العســكري ســينتهي بمجرد تسـليم الســلطة إلى الرئيس المنتخب فهم يبالغون في طموحاتهم وآمالهم إلى درجة مثيرة للشــفقة فالحكم العســكري لا يعني أن يكون الرئيس مرتديا للبذلة العســكرية والنياشــين وإنما يعني في الأســاس تدخل الســلطة العســكرية والقيادات العســكرية في كل المراكز والمواقع والمناصب الحيوية في البلاد بحيث يتم فرض تبعية القيادات للقائد العام للجيش حتى لو لم يكن هناك ثمة تسـلسـلا وظيفيا مباشـرا يوضح عدم اسـتقلال القرار، فرؤسـاء الأحياء والمحافظون ورؤسـاء مجالس إدارات الشـركات الكبرى والهيئات الحيوية والصناعات الاسـتراتيجية والإدارات يتم تعيينهم من الرتب العسـكرية بعد سـن التقاعد ويتم تعليل ذلك بأنهم أكثر كفاءة من غيرهم لأنهم سـبق لهم قيادة مؤسـسـات عسـكرية وكأن الكفاءة احتكار للمؤسـسـات العسـكرية والعاملين بها وكأن المؤسـسـات المدنية لا تقدم خبرات أو قدرات تنهض بالبلاد كالعسـكريين. الواقع هو أن اختيار هؤلاء للمناصب الهامة يكون مبنيا على الثقة لا الكفاءة وعلى الانصياع للأوامر الغير مباشــرة –أو المباشـرة أحيانا- التي تصدر من قيادة القوات المسـلحة دون نقاش أو جدال أو حتى تفكير.

        أمام بعض البرامج الانتخابية التي تم طرحها من بعض المرشــحين انفجر بعض المشـاهدين سـخرية و تهكما عندما صرح بعضهم بأنهم يفضلون شـخصا مدنيا أو امرأة لمنصب وزير الدفاع وكان السـبب المباشـر للسـخرية هو الخلط الواضح والجهل الشـديد بوظائف ومسـئوليات وزير الدفاع فيتصوره الكثير هو نفسـه القائد العام الذي يصدر الأوامر العسـكرية الصارمة ويتفقد ميدان التدريبات والمعركة ويشـد من أزر القادة والجنود ويسـتنكر المشـاهد وجود امرأة وسـط هذا المشـهد الذكوري ويحكم عليها فورا بالضعف وانعدام الكفاءة لأنها امرأة في مجتمع شـرقي محافظ كما يسـتنكر وجود وزير مدني في الموقع على اعتبار أنه لا يفقه شـيئا في المجهود الهائل المطلوب للقيادة ولا يعرف تفاصيل الخطط والمشـاريع العسـكرية وعلى اعتبار أنه ضعيف و"طري" وليس صلبا كالعسـكريين. 
       نسـي السـاخرون أن وظيفة وزير الدفاع لا ترتبط مباشـرة بالجيش نفسه وإنما بالرؤية السـياسـية لرئيس الجمهورية تجاه المؤسـسـة العسـكرية ومنهجه الخاص في إدارة هذه المؤسـسـة أما فيما يتعلق بالفنيات فمن الطبيعي والمسـلم به أن يكون القائد العام للقوات المسـلحة هو المسـئول تماما عن كل ما يتعلق بالجيش ونظامه ولا علاقة له بالسـياسـة والبرامج السـياسـية وهو الشـخص الذي يراه الشـعب رمزا لقيادة التدريبات والمعارك ومطلوب فيه الصرامة العسـكرية والانضباط مع قوة الشـخصية وهي صفات يندر توافرها في أي مدني أو امرأة في مجتمعنا على الأقل ولا يتقبلها الشـعب عموما حتى إن توافرت.

يواجه كل مرشـح معضلة الإعلام الذي يسـتغله أســوأ اســتغلال لتحقيق أقصى ربح ممكن من تســويقه للناخبين وتســويق الإعلانات أثناء شــرح برنامجه مع التوجهات الســياســية الخاصة لكل قناة فضائية والتي لا يمكن وصفها بالحياد مهما ادعت ذلك.

كما يواجه أيضا كل مرشــح معضلة أخرى وهي كيفية التعامل مع الاقتصاد المفتت. الصراع الاقتصادي هو دائما جوهر الصراع الســياســي والاجتماعي والمرشــح الرئاســي يواجه تواجد دويلات اقتصادية مستقلة وكيانات متعددة لا ترغب في أن يتم المســاس بمصادر دخلها واقتصادها الذي لا علاقة له بدخل الدولة و هذه الكيانات تختلف فيما بينها ولكنها تجتمع على استقلالها ومنها:

القوات المســلحة:
أنشــأت القوات المســلحة عددا كبيرا من المصانع والأنشــطة الزراعية والاقتصادية المتنوعة وتوســعت في تلك الأنشــطة حتى محطات البنزين ومصانع المنتجات الغذائية كالمكرونة وغيرها. لا يوجد مانع من امتلاك القوات المســلحة لمثل هذه الأنشــطة ولكن اســتقلال موازنات هذه الأنشــطة وجهات إنفاق أرباحها تبقى ســرية ولاتدخل في موازنة الدولة ولا تخضع للضرائب.

الجمعيات الخيرية الإسلامية:
عندما بلغت الرعاية الصحية في المســتشــفيات الحكومية مســتوى مترديا بدأت الجمعيات الخيرية الإســلامية في إنشــاء مســتوصفات ملحقة بالمســاجد تقدم خدمات طبية متنوعة من كشــف إلى تحاليل بأســعار زهيدة نســبيا تكون في متناول المواطن الذي لا تســمح إمكانياته بالحصول على خدمة طبية حقيقية بالأســعار الهائلة في المســتشــفيات الخاصة ولا يتحمل الإهمال والضعف الشــديد في الإمكانيات في المســتشــفيات الحكومية ويخشــى على صحته وصحة أســرته كما أتاحت للأطباء فرصا للعمل بعيدا عن المحســوبيات المقدمة لأبناء أســاتذة الجامعات في التعيين فازدهر نشــاط هذه المســتوصفات كما ألحق بأغلبها صيدليات تقدم الدواء بنفس تســعيرة الدواء لكنها كانت تحصل على خصم خاص يصل إلى 7% بالإضافة إلى الإعفاء الكامل من الضرائب. ازدهرت هذه الأنشــطة الصحية وتطورت إلى أنشــطة كبرى متنوعة ملحقة بالجمعيات الخيرية الإســلامية وأصبحت تدر دخلا هائلا بعيدا عن الضرائب تماما لأنه يحظى بإعفاء الجمعيات الخيرية.

الجمعيات الخيرية القبطية:
بعد التوســع في أنشــطة الجمعيات الخيرية الإســلامية أدركت الجمعيات الخيرية القبطية مدى الربحية المتاح من إعفاءات الضرائب فتحولت المساحات المحيطة بالأديرة من أراض ملحقة بدور للعبادة والنســك إلى مصانع ومزارع حيوانية ومزارع ســمكية وتضخمت مســاحات الأديرة بشــكل هائل عن طريق ضم مســاحات كبيرة مجاورة للأديرة وبالتعاون مع بعض رجال الأعمال الأقباط تم إنشــاء البنية الأســاســية لهذه الأنشــطة الإنتاجية وأصبحت توفر العديد من المنتجات منخفضة الثمن للأقباط وأحيانا تطرح في السوق لكافة المواطنين مســتفيدة من الإعفاء الضريبي لأنها أنشــطة تتبع الجمعيات الخيرية.

الأنشــطة التعليمية:
تحول التعليم خلال حكم المخلوع إلى اســتثمار وتجارة بحتة وتخلى العديد من أصحاب الجامعات والمعاهد والمدارس الخاصة عن الاهتمام بالرســالة التعليمية الأســاســية نظرا لضعف إمكانيات الرقابة على التعليم والفســاد الذي تغلغل في الحكومات المتعاقبة فأصبح إنشــاء نشــاط تعليمي فرصة لجذب أموال طائلة معفاة تماما من الضرائب دون تقديم خدمات حقيقية أو تعليم هادف في كثير من الحالات وأصبحت القلة فقط من أصحاب هذه الأنشطة من أصحاب الضمائر.

باختصار أنشــأت كيانات المجتمع الاقتصادية الكبرى دولتها المســتقلة داخل الدولة واســتفادت من إعفائها من الضرائب و قامت بتنمية مشــروعاتها الخاصة بســبب الفشــل الحكومي المتراكم الذي دفع كل كيان لأن يطور نفســه دون اكتراث بغيره ، ومع ســياســة الخصخصة لم يعد للدولة مصادر دخل حقيقية فقد تم بيع شــركات الأســمنت والحديد والنســيج والمحالج والمطاحن والحاصلات الزراعية والأخشاب والمتاجر الكبرى وغيرهم ولم يتبق للدولة مصادر دخل ثابتة ســوى قناة الســويس والضرائب والجمارك وعدد قليل من الأنشــطة الصناعية والزراعية.

من الذي تبقى ليدفع الضرائب إذا؟ إنها الطبقة المتوســطة من أصحاب المحال والشــركات الصغيرة والمتوســطة الذين يقومون بســداد ضرائبهم بانتظام ثم يفاجأون عند الفحص الضريبي بإهدار مســتنداتهم والتقديرات الجزافية الخرافية ومطالبات بالملايين رغم صدور قانون 2005 للضرائب إلا أنه قانون خبيث به ثغرات تجعله لا يختلف كثيرا عن القانون الســابق له الأمر الذي لا يجعل المســتثمر الصغير ينجو بنشــاطه إلا بدفع الرشـوة أو الســعي لســنوات طويلة بين دهاليز المحاكم حتى يســدد تقريبا ضعفي ما كان يجب أن يســدده –إذا لم يتم الحجز على ممتلكاته وبيعها.

كل مرشــح للرئاســة ســيواجه صعوبات حقيقية إذا حاول المســاس بأي من هذه الأنشــطة فالقوات المســلحة أعلنت صراحة أنها "ســتقاتل من أجل عرقها" أما الجمعيات الإســلامية والقبطية فلا أعتقد أنها ســتتخذ موقفا أقل حدة من ذلك ونفس الأمر في الأنشــطة التعليمية. كل هذه الأنشــطة لا تريد أن تطالها الضرائب لأنها تتمتع بأرباح صافية وأغلبها يتصرف في دخله بشــكل ســري وخاصة القوات المســلحة. حتى القطاع الذي يخضع للضرائب يقع تحت ظلم هائل يجعله مدفوعا في النهاية –في كثير من الحالات- إلى التهرب الضريبي أو إلى تصفية أعماله و الرحيل تماما عن البلاد أو وضع أمواله الســائلة في أحد البنوك والاكتفــاء بالعائد الشــهري الذي يزيد –غالبا- عن القيمة المتبقية بعد دفع ضرائبه والإتاوات والرشــوة المطلوبة لتســيير أعماله.

لا أنتظر الكثير من أي مرشــح إذا لم يعلن صراحة عما ســيفعله إزاء هذا الاقتصاد المفتت وشــبكة المصالح الأنانية لدى كل كيان اقتصادي يعتبر نفســه دولة داخل الدولة ولا أتصور أن أي مرشــح ســيواجه توحيد اقتصاد الدولة دون أن يواجه حربا شــرســة وضغوطا قوية من جميع الكيانات التي تقاوم هذا التوجه والإبقاء على أي منها مســتقلا عن الدولة ســيترجم على أنه صفقة أو خوف من هذا الكيان الاقتصادي.